( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (
169 ) فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم
ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 170 ) يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن
الله لا يضيع أجر المؤمنين ( 171 ) الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما
أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ( 172 ) الذين قال لهم الناس
إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ( 173
)
( فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل
عظيم ( 174 ) إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين
( 175 ) )
يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحهم حية مرزوقة في
دار القرار .
قال ابن جرير : حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا عمر بن يونس ، عن
عكرمة ، حدثنا ابن إسحاق بن أبي طلحة ، حدثني أنس بن مالك في أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل
بئر معونة قال : لا أدري أربعين أو سبعين . وعلى ذلك الماء عامر بن
الطفيل الجعفري ، فخرج أولئك النفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
حتى أتوا غارا مشرفا على الماء فقعدوا فيه ، ثم قال بعضهم لبعض : أيكم
يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء ؟ فقال – أراه
ابن ملحان الأنصاري – : أنا أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فخرج حتى أتى حيا [ منهم ] فاختبا أمام البيوت ، ثم قال : يا
أهل بئر معونة ، إني رسول رسول الله إليكم ، إني أشهد أن لا إله
إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، فآمنوا بالله ورسوله . فخرج إليه رجل من
كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر . فقال :
الله أكبر ، فزت ورب الكعبة . فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه في الغار فقتلهم
أجمعين عامر بن الطفيل . وقال إسحاق : حدثني أنس بن مالك ، أن الله
[ تعالى ] أنزل فيهم قرآنا : بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي
عنا ورضينا عنه ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناه زمنا ، وأنزل الله : (
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) .
وقد قال الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري في صحيحه : حدثنا محمد بن
عبد الله بن نمير ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن عبد الله
بن مرة ، عن مسروق قال : سألنا عبد الله عن هذه الآية : (
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) فقال
: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال : ” أرواحهم في جوف طير خضر
لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة [ ص: 162 ] حيث شاءت ،
ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال : هل تشتهون شيئا
؟ فقالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ؟ ففعل ذلك
بهم ثلاث مرات ، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا : يا
رب ، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى ،
فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا ” . وقد روي نحوه عن أنس وأبي
سعيد .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد ، حدثنا
ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” ما من
نفس تموت ، لها عند الله خير ، يسرها أن ترجع إلى الدنيا إلا الشهيد
فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى لما يرى من فضل الشهادة ”
.
انفرد به مسلم من طريق حماد .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبد الله المديني ، حدثنا
سفيان ، عن محمد بن علي بن ربيعة السلمي ، عن عبد الله بن محمد
بن عقيل ، عن جابر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم
: ” أما علمت أن الله أحيا أباك فقال له : تمن علي ، فقال
له : أرد إلى الدنيا ، فأقتل مرة أخرى ، فقال : إني قضيت الحكم
أنهم إليها لا يرجعون ” .
انفرد به أحمد من هذا الوجه وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن أبا جابر –
وهو عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري رضي الله عنه – قتل يوم أحد
شهيدا . قال البخاري : وقال أبو الوليد ، عن شعبة عن ابن المنكدر قال
: سمعت جابرا قال : لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه ،
فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهونني والنبي صلى الله عليه وسلم لم
ينه ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” لا تبكه – أو :
ما تبكيه – ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع ” . وقد أسنده هو
ومسلم والنسائي من طريق آخر عن شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال :
لما قتل أبي يوم أحد ، جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي . . .
وذكر تمامه بنحوه .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن
إسحاق ، حدثنا إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد ، عن أبي الزبير المكي
، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : ” لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير
خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في
ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مشربهم ، [ ص: 163 ] ومأكلهم ، وحسن
منقلبهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا ، لئلا يزهدوا في
الجهاد ، ولا ينكلوا عن الحرب ” فقال الله عز وجل : أنا أبلغهم عنكم
. فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل
الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) وما بعدها ” .
هكذا رواه [ الإمام ] أحمد ، وكذا رواه ابن جرير عن يونس ، عن
ابن وهب ، عن إسماعيل بن عياش عن محمد بن إسحاق به ورواه أبو داود
والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق ، عن
إسماعيل بن أمية ، عن أبي الزبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس فذكره ، وهذا أثبت . وكذا رواه سفيان الثوري ، عن سالم الأفطس ،
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس .
وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي إسحاق الفزاري ، عن سفيان عن إسماعيل بن
أبي خالد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه
الآية في حمزة وأصحابه : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل
أحياء عند ربهم يرزقون ) ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
وكذا قال قتادة ، والربيع ، والضحاك : إنها نزلت في قتلى أحد .
حديث آخر : قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ،
حدثنا هارون بن سليمان أنبأنا علي بن عبد الله المديني ، أنبأنا موسى بن إبراهيم
بن كثير بن بشير بن الفاكه الأنصاري ، سمعت طلحة بن خراش بن عبد الرحمن
بن خراش بن الصمة الأنصاري ، قال : سمعت جابر بن عبد الله قال :
نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : ” يا جابر
، ما لي أراك مهتما ؟ ” قال : قلت : يا رسول الله ،
استشهد أبي وترك دينا وعيالا . قال : فقال : ” ألا أخبرك ؟ ما
كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب ، وإنه كلم أباك كفاحا – قال
علي : الكفاح : المواجهة – فقال : سلني أعطك . قال : أسألك أن
أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية فقال الرب عز وجل : إنه سبق مني القول
أنهم إليها لا يرجعون . قال : أي رب : فأبلغ من ورائي . فأنزل
الله [ عز وجل ] ) ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا )
الآية .
ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن سليمان بن سبيط الأنصاري ، عن أبيه
، عن جابر ، به نحوه . وكذا رواه البيهقي في ” دلائل النبوة ”
من طريق علي بن المديني ، به .
[ ص: 164 ] وقد رواه البيهقي أيضا من حديث أبي عبادة الأنصاري ، وهو
عيسى بن عبد الرحمن ، إن شاء الله ، عن الزهري ، عن عروة ،
عن عائشة [ رضي الله عنها ] قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم
لجابر : ” يا جابر ، ألا أبشرك ؟ قال : بلى ، بشرك الله
بالخير . قال شعرت أن الله أحيا أباك فقال : تمن علي عبدي ما شئت
أعطكه . قال : يا رب ، ما عبدتك حق عبادتك . أتمنى عليك أن
تردني إلى الدنيا فأقاتل مع نبيك ، وأقتل فيك مرة أخرى . قال : إنه
سلف مني أنه إليها [ لا ] يرجع ” .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن
إسحاق ، حدثنا الحارث بن فضيل الأنصاري ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن
عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: ” الشهداء على بارق نهر بباب الجنة ، في قبة خضراء ، يخرج عليهم
رزقهم من الجنة بكرة وعشيا ” .
تفرد به أحمد ، وقد رواه ابن جرير عن أبي كريب حدثنا عبد الرحيم بن
سليمان ، وعبدة عن محمد بن إسحاق ، به . وهو إسناد جيد .
وكان الشهداء أقسام : منهم من تسرح أرواحهم في الجنة ، ومنهم من يكون على
هذا النهر بباب الجنة ، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر فيجتمعون
هنالك ، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح ، والله أعلم .